إبراهيم عيسى يكتب: ولا يزالون حتى الآن!
السبت 11 فبراير 2012 – 10:10 ص إبراهيم عيسى
إبراهيم عيسى
واقعة شهيرة يسمعها كل من اقترب من إخوتنا اليساريين والشيوعيين، يحكيها البعض بفخر ويرويها آخرون بخجل، تفاصيل الواقعة أن أحد الرفاق الشيوعيين كان موجودا فى اجتماع التنظيم السرى الذى ينتمى إليه فى إحدى الشقق فى عمارة كانوا يظنون أنها بعيدة عن أعين البوليس، شعر هذا العضو بالتعب والمرض فاستأذن رفاقه وصحبته منصرفا، نزل من العمارة إلى الشارع، ففوجئ بقوات البوليس تحاصر المكان وتتأهب لاقتحام العمارة، فأدرك فورا أن البوليس عرف مكانهم، وأنهم سيقبضون على التنظيم، ولكنه بدلا من أن يجرى ويفر عاد مرة أخرى إلى الشقة وخبَّط عليهم ودخل ليكمل الاجتماع، حتى وصل البوليس بعد دقائق وقبض عليه مع زملائه وأعضاء التنظيم كلهم، لماذا لم يهرب هو ويفلت طالما عرف أن البوليس سيقبض عليهم؟ لماذا عاد وشارك حتى يتم القبض عليه متلبسا؟ فعل هذا لأنه خشى أن يتهمه زملاؤه بأنه عميل للمباحث، بدليل أن البوليس وصل بمجرد ما خرج هو، بل لم يتم القبض عليه. إلى هذا الحد كان أى سياسى أو مثقف يخشى مجرد اتهامه بأنه على علاقة بالأمن، أو أن له صلة بالمباحث، وكانت هذه التهمة كفيلة بتدمير سمعته وضياع كبريائه والقضاء على مستقبله، وكنا فى عالم الصحافة -حين دخلناه منذ أكثر من ربع قرن تقريبا- نتعامل مع «الصحفيين المباحث» بمنتهى الترفع والتعالى والاحتقار، وكان إذا ما انتشرت شائعة عن صلة زميل بمباحث أمن الدولة، كانت الصدمة تضرب بعضنا وكان بعضنا الآخر لا يصدق وبعضنا الثالث يتجنب الزميل ويتجاهله. لكن عصر مبارك شهد تحولا مذهلا فى علاقة السياسيين والصحفيين وأعضاء الأحزاب بمباحث أمن الدولة، صار الوضع سيركا ومسخرة، حتى إن بعض زملائنا فى المهنة حصلوا على رتبة اللواء الفخرية فى مؤسساتهم ومجلاتهم، لشهرتهم الكبيرة فى تعاونهم الوثيق مع المباحث بكتابة التقارير بشكل علنى، ثم التحدث باسم المباحث، وهناك عشرات من السياسيين وأعضاء الأحزاب المعارضة وقياداتها وجمعيات أصدقاء (هكذا يطلقون على أنفسهم) لضباط فى مباحث أمن الدولة، وهناك زعامات حزبية تفتخر بأنها كانت فى مكتب حسن بيه رئيس الجهاز أو أنها كلمت فلان بيه فى إدارة الصحافة أو الأحزاب فى أمن الدولة، ثم صارت العناصر التى باعت نفسها لأمن الدولة هى التى تتحصل على معظم رخص الأحزاب، وكذلك الصحف، ثم هى التى تتولى قيادة كثير من الأحزاب التى نقول عنها تجاوزا محترمة، ثم تولى المباحثيون الجدد مسؤوليات مؤسسات إعلامية وصحفية حكومية وخاصة بعد سنوات من وصمهم بأنهم عملاء المباحث، ترقوا وصاروا المباحث شخصيا! ولما قامت ثورة يناير قرروا أن يكونوا مباحث المجلس العسكرى ويطلقون الآن لحاهم وألسنتهم ضد الثورة استعدادا لأن يكونوا مباحث للإخوان! فى اعترافاته أمام جهات التحقيق وهو يواجه تهمة التجسس ضد بلاده عام 1965 قال الصحفى المصرى إنه لم يتحصل إطلاقا على أموال من المخابرات الأمريكية التى ضبط متلبسا بالعمل لصالحها ولكنها (أى المخابرات الأمريكية) سهلت له شراء مطابع وشحنات ورق لصحيفته (لاحظ أن وقتها كانت أمور الاستيراد وحصص الورق شديدة الصعوبة)، كما أنها أرست لحسابه طبع مجلات عربية تمولها هذه الأجهزة، بالإضافة إلى فتح أسواق بيع لجريدته فى عدد من البلدان العربية، وواقعنا المصرى يحتشد بقصص الصحفيين الذين ألفوا كتابا عن زعيم عربى فاشترت جميع نسخه وزارة إعلام دولته، بينما لم يخرج من المخازن وهناك من حصل على حقه كوبونات بترول من صدام مثلا، وهناك من تعاقدت دولة عربية على شراء آلاف من النسخ من جريدته لتمويله، بينما لم تدخل الجريدة بيتا واحدا فى هذه الدولة، وهناك من كان جهاز أمن الدولة يسهل له الحصول على إعلانات من شركات القطاع العام ومن رجال أعمال مقابل عمالته للجهاز. فى القناعة الراسخة أن المخابرات تدفع للكاتب أو الصحفى، لكن آخر ما تفعله هو أن تضع مظروفا بالمال على المائدة أمامهما مع فنجان القهوة، فمن أصول تجنيد الكاتب احترام أوهامه عن كفاءته والحساسية المفرطة مع تقديره لذاته «الذى غالبا ما يكون مبالغا فيه». إنه يحاول أن يتصور أنه فقط يعبر عما يؤمن به، وهو يفعل ذلك لخدمة ونهضة بلده، ولضابط المخابرات أن يوافقه على هذا الكلام بإيمان وإخلاص كامل، وهو يعرف أن هذا الكاتب أو الصحفى مجرد أجير أفاق! أثناء اندلاع العمليات الإرهابية فى الصعيد فى منتصف ونهاية التسعينيات ظهرت فئة فى قرى الصعيد أطلقوا عليها اسم المرشدين، هؤلاء كانوا يعملون مع الداخلية يرشدون عن بيوت المتطرفين أو مناطق الإرهابيين أو مواطن عائلاتهم، وبعد فترة تحوَّل هؤلاء المرشدون إلى قوة هائلة تبتز الأبرياء، وتفرض إتاوات على الفلاحين وترمى جِتتها على الأغنياء وتمتص دم الفقراء وترتشى من طوب الأرض، والذى يرفض تبلغ عنه وترشد البوليس على أنه إرهابى، وكم باع صعايدة نخلاتهم وقطعا من أراضيهم وبيوتهم للمرشدين، حتى لا يذهب أبناؤهم إلى المعتقلات سنين طويلة ببلاغ كاذب من مرشد مبتز. تخيلوا أن هؤلاء المرشدين كانوا هم الذين يحكمون العالم السياسى والصحفى فى مصر، وللأسف بعد الثورة لا يزالون يحكمون حتى الآن!