مقالة علاء الاسوانى فى المصرى اليوم
هل تعود الأرانب إلى القفص؟!
٢٠/ ١٢/ ٢٠١١
هل يمكن أن يعيش الإنسان دون أكل وشرب، بالطبع لا فهذه احتياجات أساسية يموت الإنسان إذا انقطعت عنه.. هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون كرامة؟!.
الإجابة للأسف «نعم»، فالإنسان قد يعيش ويأكل ويشرب وهو فاقد لكرامته.. لقد شهد التاريخ الإنسانى ظاهرة العبودية، حيث عاش ملايين العبيد على مدى قرون دون كرامة، بل إن شعوبا كثيرة عاشت ذليلة بلا كرامة تحت حكم الاستبداد.. على مدى ثلاثين عاما عاش ملايين المصريين بلا كرامة تحت حكم مبارك، يأكلون ويشربون ويتحملون الإهانات ويتملقون صاحب السلطة، حتى يرضى عنهم، ملايين المصريين كان استمرارهم فى الحياة أهم لديهم بكثير من الحفاظ على كرامتهم، تعودوا أن يتحملوا إهدار كرامتهم، خوفا من العقاب وطمعا فى المكاسب، يتحملون غطرسة ضابط الشرطة ويقولون له يا باشا ويتحملون ظلم رئيسهم فى العمل وينافقونه حتى يرضى عنهم.. يتحملون المعتقلات والتعذيب وانتهاك الأعراض ويتغاضون عنها مادامت تحدث لآخرين ويوصون أولادهم بالمشى بجوار الحائط وعدم التظاهر أو الاعتراض على الحاكم مهما ظلمهم ونهبهم وأذلهم.. ملايين المصريين كانوا يعتبرون النفاق لباقة والجبن حكمة والسكوت عن الحق عين العقل.. بالمقابل فإن نظام مبارك كان يكن احتقارا عميقا للمصريين، المسؤولون فى نظام مبارك جميعا كان رأيهم فى المصريين أنهم شعب جاهل، كسول، غير منتج، تعود على الفوضى ولا يصلح للديمقراطية..
هذه الاستهانة بالشعب المصرى هى ما جعلت نظام مبارك يطمئن لسيطرته المطلقة على الحكم حتى أفاق على الثورة، كانت الثورة المصرية معجزة بأى مقياس، فقد ظهر جيل من المصريين مبرأ من كل أمراض الاستبداد، جيل لا يخاف ولا يسكت على الظلم.. شباب مصريون يشكلون نصف الشعب المصرى، كانت شجاعتهم وإخلاصهم للقيم النبيلة أمرا مستعصيا على التفسير.
فقد تربى هؤلاء الشبان فى ظل تعليم ردىء واعلام مضلل وقيم منهارة وحاكم يعتبر أن أكل العيش أهم بكثير من الكرامة.. بالرغم من ذلك فقد ظهر شباب الثورة فجأة، كالطفرة العظيمة، كأنما مصر شجرة عملاقة دائمة العطاء مهما أصابتها الأمراض يكون بمقدورها دائما أن تثمر أوراقا جديدة خضراء فى غاية النضارة..كان الهدف الأول للثورة استعادة كرامة الشعب المصرى، بالنسبة لمبارك ورجاله كانت المفاجأة مذهلة: هؤلاء المصريون خضعوا للإذلال سنوات طويلة ماذا جرى لهم وما الذى جعلهم مصممين على استعادة كرامتهم؟
نجحت الثورة فى إزاحة مبارك عن الحكم فى أقل من ثلاثة أسابيع ثم أوكل الثوار للمجلس العسكرى حكم مصر فى الفترة الانتقالية، هنا لابد أن نتوقف لنفهم اتجاهات الشعب بعد تنحى مبارك.. كان هناك بضعة ملايين من الفلول المستفيدين من نظام مبارك، الكارهين للثورة بالطبع، وكان هناك عشرون مليون مصرى اشتركوا فى الثورة بأنفسهم ونضيف اليهم ضعف عددهم من المتعاطفين مع الثورة..
بحسبة بسيطة سنكتشف أن هناك ما يقرب من ٢٠ مليون مصرى لم يستفيدوا من نظام مبارك لكنهم فى الوقت نفسه لم يشتركوا فى الثورة ولم يتعاطفوا معها، هذه الكتلة الساكنة هم المصريون المذعنون، الذين عانوا من نظام مبارك لكنهم نجحوا تماما فى التواؤم معه، هؤلاء المذعنون أقلقتهم الثورة وأحرجتهم وجعلتهم يعيدون النظر فى المسلمات التى يبنون عليها حياتهم.. فالجبن ليس بالضرورة حكمة والإذعان ليس بالضرورة عين العقل، ها هم يرون بأعينهم شبانا فى سن أولادهم يستقبلون بصدورهم العارية الرصاص القاتل فلا يخافون ولا يتراجعون لأن الموت عندهم أفضل من الحياة الذليلة.
ظل موقف هؤلاء المذعنين من الثورة متذبذبا فهم وإن كان يسعدهم أن تحقق الثورة أهدافها ليس لديهم أدنى استعداد للتضحية من أجلها، تسلم المجلس العسكرى الحكم وسط تأييد شعبى جارف من المصريين الذين وثقوا فى قدرته ورغبته فى تحقيق أهداف الثورة إلا أن المصريين فوجئوا بأن تصرفات المجلس العسكرى غريبة ومشوشة.. عندما نسترجع الآن كل ما حدث سيكون من السهل رؤية الصورة بوضوح:
أولاً: قاوم المجلس العسكرى أى تغيير حقيقى ونجح فى استبقاء نظام مبارك فى السلطة وكان من الطبيعى أن يعمل النظام القديم على القضاء على الثورة، فقد رفض المجلس العسكرى كتابة دستور جديد واكتفى ببعض التعديلات على الدستور القديم وأجرى عليها استفتاء، ثم التف على إرادة الشعب وأعلن دستورا مؤقتا من ٦٣ مادة حدد ملامح النظام السياسى بعيدا عن إرادة المصريين.
ثانياً: ترك المجلس العسكرى الانفلات الأمنى يتفاقم ولم يفعل شيئا لحل الأزمات المتوالية المصطنعة التى أحالت حياة المصريين إلى جحيم وجعلت قطاعا من المصريين «المذعنين» يكرهون الثورة ويعتبرونها السبب فى كل مشكلات حياتهم.
ثالثاً: قاد المجلس العسكرى حملة لتشويه سمعة الثوريين وبعد أن كان شباب الثورة يقدمون باعتبارهم أبطالا قوميين تحولوا فى الإعلام الرسمى إلى عملاء ينفذون أجندات خارجية وبلطجية ومخربين يريدون إسقاط الدولة.
رابعاً: قام المجلس العسكرى من البداية بتقسيم الكتلة الثورية إلى إسلاميين وليبراليين، وقام بإذكاء مخاوف كل فريق من الآخر.. فهو تارة يقترب من الإسلاميين، ثم يشير إلى الليبراليين فيسارعون إليه ليكتب لهم وثيقة تحميهم من الدستور الإسلامى الذى يفزعهم، وعندما يغضب الإسلاميون يعود المجلس إلى استرضائهم.. وهكذا دخل رفاق الثورة فى حلقة لا تنتهى من صراعات واتهامات أدت إلى تفتيت القوة الثورية وإضعافها.
خامساً: نظم المجلس العسكرى الانتخابات بطريقة تستبعد شباب الثورة تماما من البرلمان وفتح الباب على مصراعيه للإسلاميين حتى يحصلوا على الأغلبية.. يقتضينا الإنصاف هنا أن نؤكد أن الإسلاميين يتمتعون بشعبية حقيقية مؤثرة فى الشارع وأنهم لابد أن يحصلوا على نسبة كبيرة من أصوات الناخبين فى أى انتخابات نزيهة، لكن ما حدث فى الانتخابات كان شيئا مختلفا، فقد قدم جهاز أمن الدولة خبرته الكبيرة وتمت الاستعانة بلجنة عليا للانتخابات لا تفعل شيئا لإيقاف الانتهاكات ولا تطبق القانون وتم التغاضى الكامل عن جميع المخالفات والجرائم الانتخابية التى ارتكبها الإسلاميون
وعندما بدا للجميع أن الإسلاميين سيحصلون على غالبية المقاعد استغل المجلس العسكرى مخاوف الليبراليين وشكل منهم مجلسا استشاريا ليكونوا ذراعه اليمنى فى تحجيم الإسلاميين، وهكذا ظل الصراع متأججا بين شركاء الثورة بطريقة تؤدى إلى بقاء المجلس العسكرى فى السلطة، إذ يحتاج إلى وجوده كل الأطراف.
سادساً: عن طريق أحداث مدبرة من نظام مبارك تم إظهار مصر كأنها وقعت فى فوضى شاملة، وكان من الطبيعى أن تهتم الدول الكبرى بما يحدث فى أكبر دولة عربية وتحرص على حماية مصالحها فى المنطقة، عندما انتهكت إسرائيل الحدود المصرية وقتلت ستة ضباط وجنود مصريين على أرضهم لم يفعل المجلس العسكرى شيئا من أجل محاسبة إسرائيل على جريمتها، كانت هذه رسالة للولايات المتحدة، مفادها أن سياسة حسنى مبارك سوف تطبق بالكامل من المجلس العسكرى وأعقب ذلك تأييد كامل من الخارجية الأمريكية للمجلس العسكرى، بل إن البيانات الأمريكية فى مديح المجلس العسكرى تستعمل التعبيرات نفسها التى كانت تثنى بها على حسنى مبارك.
هكذا تم إجهاض الثورة المصرية بتنفيذ خطوات متوالية محسوبة بعناية.. بقيت خطوة أخيرة ضرورية لإنهاء الثورة واعتبارها كأن لم تكن. بعد أن تم حصار الثوريين واستبعادهم من البرلمان وتشويه صورتهم كان لابد من توجيه ضربة ساحقة تكسر إرادة الثوريين إلى الأبد.
كانت الظروف مواتية للضربة الساحقة: قيادات الإسلاميين لا تريد أن تغضب المجلس العسكرى، طمعا فى مقاعد البرلمان، وكبار الليبراليين جالسون على مائدة المجلس العسكرى، طمعا فى مناصب الوزارة المقبلة، أما طائفة المصريين المذعنين فقد تحول قلقهم من كل هذه الأزمات والصراعات إلى كراهية حقيقية للثورة، وهم بصراحة كاملة يحنون إلى أيام مبارك حين كانت حياتهم ذليلة ومهينة لكنها مستقرة وآمنة. تم تدبير مذابح متكررة كلها تمت بالطريقة نفسها: أجهزة الأمن تدفع ببلطجية فيحرقون المنشآت ويمارسون التخريب وهكذا يصاب المصريون بالذعر ويعتقدون أن الثوار بلطجية ثم تعقب ذلك موجات من الاعتداءات الوحشية على المتظاهرين، ليس فقط من أجل قتلهم وفقء عيونهم وإنما – وهذا الهدف الأهم – لترويع المصريين جميعا من فكرة النزول إلى الشارع أو التظاهر وإرجاعهم إلى حالة الإذعان السابقة على الثورة.. إن كل من شاهدوا الجرائم الرهيبة التى ارتكبها أفراد الأمن والجيش ضد المتظاهرين لا شك قد تساءلوا: لماذا يتعمد أفراد الأمن ضرب المتظاهرات وهتك أعراضهن على الملأ؟!.
ماذا يستفيد الجنود عندما يضربون سيدة مسنة أو عندما يكشفون عورة متظاهرة ويخلعون ثيابها أمام الكاميرات؟!. الغرض الوحيد من ذلك كسر إرادة المصريين وإرجاعهم إلى الخنوع، الغرض أن نشعر مرة أخرى بأننا نواجه قوة ساحقة لا قِبَل لنا بها وأن نرتعد خوفا من فكرة إغضاب السلطة أو معارضتها، فى كل مرة عندما نرى المتظاهرة وهى عارية تدهسها أحذية الجنود سوف نتذكر أمهاتنا وزوجاتنا ونخاف من أن يلقين ذلك المصير..
الغرض أن نستسلم لإرادة السلطة القاهرة، أن تعود الأرانب إلى القفص فيغلق عليها المجلس العسكرى، وعندئذ يفعل نظام مبارك بمصر ما شاء. إن المعركة القائمة الآن بين الثورة ونظام مبارك. إن إصرار المتظاهرين على الثبات أمام قوات الأمن مهما تكن التضحيات يرجع أساسا إلى شعورهم بأنهم القوة الوحيدة المتبقية للثورة.. إنهم يموتون ليس دفاعا عن شارع محمد محمود ولا عن الاعتصام أمام مجلس الوزراء وإنما دفاعا عن الثورة.. فى كل مرة يحتشد نظام مبارك ليوجه الضربة النهائية للثورة تفاجئه مقاومة عنيفة من الثوار تربك حساباته وتضطره إلى ارتكاب المزيد من الجرائم الوحشية من أجل كسر إرادة الثوار بأى طريقة وأى ثمن.. إن إرادة الثورة حتى الآن لم تنكسر وكلما اشتدت وحشية نظام مبارك زادت مقاومة الثوريين.. واجبنا الآن أن نرتفع فوق الخلافات ونتوحد فى مواجهة نظام مبارك الذى يرتكب كل هذه الجرائم.
بالرغم من عورات الانتخابات الكثيرة فيجب، فى رأيى، أن نقبل نتائجها وندعم بكل قوتنا مجلس الشعب القادم لأنه فى النهاية الهيئة الوحيدة المنتخبة من الشعب المصرى.. يجب أن تتوحد كل الجهود فى اتجاه واحد: تسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى حكومة مدنية يشكلها مجلس الشعب. اليوم وليس غدا.
الديمقراطية هى الحل.